س)- ما حكم تارك الصلاة؟
قال صلى الله عليه وسلم (يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ حَتَّى لَا يُدْرَى مَا صِيَامٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي لَيْلَةٍ فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ يَقُولُونَ أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَنَحْنُ نَقُولُهَا).
في الحديث فائدة فقهية هامة , وهي أن شهادة أن لا إله إلا الله تنجي قائلها من الخلود في النار يوم القيامة , ولو كان لا يقوم بشئ من أركان الإسلام الخمسة الأخرى , كالصلاة وغيرها , ومن المعلوم أن العلماء اختلفوا في حكم تارك الصلاة , خاصة مع إيمانه بمشروعيتها , فالجمهور على أنه لا يكفر بذلك , بل يفسق , وذهب أحمد – في رواية – إلى أنه يكفر , وأنه يقتل ردة لا حداً , وقد صح عن الصحابة أنهم كانوا لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة , رواه الترمذي والحاكم ، وأنا أرى أن الصواب رأي الجمهور , وأن ما ورد عن الصحابة ليس نصاً على أنهم كانوا يريدون بالكفر هنا الكفر الذي يخلد صاحبه في النار , ولا يحتمل أن يغفره الله له , كيف ذلك وهذا حذيفة بن اليمان – وهو من كبار أولئك الصحابة – يرد على صلة بن زفر – وهو يكاد يفهم الأمر على نحو فهم أحمد له – فيقول : (مَا تُغْنِي عَنْهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا صَلَاةٌ ...) فيجيبه حذيفة بعد إعراضه عنه : (يَا صِلَةُ تُنْجِيهِمْ مِنْ النَّارِ ثَلَاثًا) ، فهذا نص من حذيفة رضي الله عنه على أن تارك الصلاة – ومثلها بقية الأركان – ليس بكافر , بل مسلم ناج من الخلود في النار يوم القيامة , فاحفظ هذا فإنه قد لا تجده في غير هذا المكان ، وفي الحديث المرفوع ما يشهد له , ولعلنا نذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ثم وقفت على (الفتاوى الحديثية) (84/2) للحافظ السخاوي , فرأيته يقول بعد أن ساق بعض الأحاديث الواردة في تكفير تارك الصلاة – وهي مشهورة معروفة -(ولكن , كل هذا إنما يحمل على ظاهره في حق تاركها جاحداً لوجودها مع كونه ممن نشأ بين المسلمين , لأنه يكون حينئذ كافر مرتداً بإجماع المسلمين . فإن رجع إلى الإسلام , قبل منه , وإلا قتل , وأما من تركها بلا عذر – بل تكاسلاً مع اعتقاد وجوبها - , فالصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور أنه لا يكفر , وأنه – على الصحيح أيضاً – بعد إخراج الصلاة الواحدة عن وقتها الضروري – كأن يترك الظهر مثلاً حتى تغرب الشمس , أو المغرب حتى يطلع الفجر – يستتاب كما يستتاب المرتد , ثم يقتل إن لم يتب , ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين , مع إجراء سائر أحكام المسلمين عليه , ويؤول إطلاق الكفر عليه لكونه شارك الكافر في بعض أحكامه , وهو وجوب العمل , جمعاً بين هذه النصوص وبين ما صح أيضاً عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال (خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ .... [فذكر الحديث , وفيه :] إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ) , وقال أيضاً : (مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ) . إلى غير ذلك , ولهذا لم يزل المسلمون يرثون تارك الصلاة ويورثونه , ولو كان كافراً , لم يغفر له , لم يرث ولم يورث).
وقد ذكر نحو هذا الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله في (حاشيته على المقنع) (1/ 95-96) , وختم البحث بقولهولأن ذلك إجماع المسلمين , فإننا لا نعلم في عصر من الأعصار أحداً من تاركي الصلاة ترك تغسيله والصلاة عليه , ولا منع ميراث موروثه , مع كثرة تاركي الصلاة , ولو كفر , لثبتت هذه الأحكام , وأما الأحاديث المتقدمة , فهي على وجه التغليظ والتشبيه بالكفار لا على الحقيقة , كقوله عليه الصلاة والسلام : (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ) وقوله : (مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْْ أَشْرَكَ) , وغير ذلك . قال الموافق : وهذا أصوب القولين).
أقول : نقلت هذا النص من (الحاشية) المذكورة , ليعلم بعض متعصبة الحنابلة أن الذي ذهبنا إليه ليس رأياً تفردنا به دون أهل العلم , بل هو مذهب جمهورهم , والمحقيقين من علماء الحنابلة أنفسهم , كالموافق هذا – وهو ابن قدامة المقدسي – وغيره , ففي ذلك حجة كافية على أولئك المتعصبة , تحملهم إن شاء الله تعالى على ترك غلوائهم , والاعتدال في حكمهم.
بيد أن هنا دقيقة قل من رأيته تنبه لها , أو نبه عليها , فوجب الكشف عنها وبيانها , فأقول: إن التارك للصلاة كسلاً إنما يصح الحكم بإسلامه , ما دام لا يوجد هناك ما يكشف عن مكنون قلبه , أو يدل عليه , ومات على ذلك قبل أن يستتاب , كما هو الواقع في هذا الزمان , أما لو خير بين القتل والتوبة بالرجوع إلى المحافظة على الصلاة , فاختار القتل عليها , فقتل , فهو في هذه الحالة يموت كافراً , ولا يدفن في مقابر المسلمين , ولا تجري عليه أحكامهم , خلافاً لما سبق عن السخاوي , لأنه لا يعقل – لو كان غير جاحد لها في قلبه – أن يختار القتل عليها , هذا أمر مستحيل معروف بالضرورة من طبيعة الإنسان , لا يحتاج إثباته إلى برهان .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في (مجموعة الفتاوى) (22/48) : (ومتي امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل، لم يكن في الباطن مقرًا بوجوبها، ولا ملتزمًا بفعلها، وهذا كافر باتفاق المسلمين، كما استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا، ودلت عليه النصوص الصحيحة .....فمن كان مصرًا على تركها حتى يموت لا يسجد لله سجدة قط، فهذا لا يكون قط مسلمًا مقرًا بوجوبها، فإن اعتقاد الوجوب، واعتقاد أن تاركها يستحق القتل، هذا داع تام إلى فعلها، والداعي مع القدرة يوجب وجود المقدور، فإذا كان قادرًا ولم يفعل قط، علم أن الداعي في حقه لم يوجد